كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [4: 1] وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [7: 189] فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمَعْنَى مِنْ جِنْسِهَا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [30: 21] فَإِنَّ الْمَعْنَى هُنَاكَ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ أَزْوَاجًا مِنْ جِنْسِنَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ زَوْجَةٍ مَنْ بِدَنِ زَوْجِهَا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ: وَأَمَّا عِصْمَةُ آدَمَ فَالْجَرْيُ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ يَذْهَبُ بِنَا إِلَى أَنَّ الْعِصْيَانَ وَالتَّوْبَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، كَسَائِرِ مَا وَرَدَ فِي الْقِصَّةِ مِمَّا لَا يَرْكَنُ الْعَقْلُ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ تِلْكَ مُخَالَفَةٌ صَدَرَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ عَزْمُ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [20: 115] وَالِاتِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعِصْمَةِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَامِرِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ الَّذِي وَقَعَ مِنْ آدَمَ نِسْيَانًا، فَسُمِّيَ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ عِصْيَانًا، وَالنِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ مِمَّا لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ، فَإِنْ جَعْلَنَا الْكَلَامَ كُلَّهُ تَمْثِيلًا فَحَدِيثُ الْإِخْلَالِ بِالْعِصْمَةِ مِمَّا لَا يَمُرُّ بِذِهْنِ الْعَاقِلِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ فِي التَّمْثِيلِ فَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرًا مَا يُصَوِّرُ الْمَعَانِيَ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهَا بِصِيغَةِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، أَوْ بِأُسْلُوبِ الْحِكَايَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْبَيَانِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهُوَ يَدْعُو بِهَا الْأَذْهَانَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْمَعَانِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [50: 30] فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْتَفْهِمُ مِنْهَا وَهِيَ تُجَاوِبُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ لِسَعَتِهَا وَكَوْنِهَا لَا تَضِيقُ بِالْمُجْرِمِينَ مَهْمَا كَثُرُوا، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ- بَعْدَ ذِكْرِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [41: 11] وَالْمَعْنَى فِي التَّمْثِيلِ الظَّاهِرِ.
أَقُولُ: وَهَذَا الْأَمْرُ يُسَمَّى أَمْرَ التَّكْوِينِ، وَيُقَابِلُهُ أَمْرُ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَمْرَ التَّكْوِينِ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ فِي التَّنْزِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [36: 82] فَهُوَ تَصْوِيرٌ لِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِالْإِيجَادِ، وَلَا أَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَثَرِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْأَوَامِرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ إِلَّا لِلْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي تَفْسِيرِ {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ كَوْنِيٌّ، وَمِثْلُهُ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ آدَمَ وَمِنَ الْآيَاتِ الْأُخْرَى مِنْ مُخَاطَبَةِ إِبْلِيسَ لِلرَّبِّ وَجَوَابِهَا فِي شَأْنِ إِغْوَائِهِ لِلْبَشَرِ وَإِنْظَارِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: وَتَقْرِيرُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِصَّةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ هَكَذَا: إِنَّ إِخْبَارَ اللهِ الْمَلَائِكَةَ بِجَعْلِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْيِئَةِ الْأَرْضِ وَقُوَى هَذَا الْعَالَمِ وَأَرْوَاحِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَنِظَامُهُ لِوُجُودِ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا فَيَكُونُ بِهِ كَمَالُ الْوُجُودِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَسُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ عَنْ جَعْلِ خَلِيفَةٍ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَيُعْطِي اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا حَدَّ لَهُمَا، هُوَ تَصْوِيرٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِذَلِكَ وَتَمْهِيدٌ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي خِلَافَتَهُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعْلِيمُ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا بَيَانٌ لِاسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِعِلْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ فِي اسْتِعْمَارِهَا، وَعَرْضُ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَسُؤَالُهُمْ عَنْهَا وَتَنَصُّلُهُمْ فِي الْجَوَابِ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِ الشُّعُورِ الَّذِي يُصَاحِبُ كُلَّ رُوحٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُدَبِّرَةِ لِلْعَوَالِمِ مَحْدُودًا لَا يَتَعَدَّى وَظِيفَتَهُ، وَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي تَرْقِيَةِ الْكَوْنِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ، وَإِبَاءُ إِبْلِيسَ وَاسْتِكْبَارُهُ عَنِ السُّجُودِ تَمْثِيلٌ لِعَجْزِ الْإِنْسَانِ عَنْ إِخْضَاعِ رُوحِ الشَّرِّ وَإِبْطَالِ دَاعِيَةِ خَوَاطِرِ السُّوءِ الَّتِي هِيَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَالتَّعَدِّي وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَاءَ عَلَى الْإِنْسَانِ زَمَنٌ يَكُونُ فِيهِ أَفْرَادُهُ كَالْمَلَائِكَةِ بَلْ أَعْظَمَ، أَوْ يَخْرُجُونَ عَنْ كَوْنِهِمْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ.
هَذَا مُلَخَّصٌ مَا تَقَدَّمَ فِي سَابِقِ آيَاتِ الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْهَا فَيَصِحُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرَادَ بِالْجَنَّةِ الرَّاحَةُ وَالنَّعِيمُ، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَجِدَ فِي الْجَنَّةِ- الَّتِي هِيَ الْحَدِيقَةُ ذَاتُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ- مَا يَلَذُّ لَهُ مِنْ مَرْئِيٍّ وَمَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَشْمُومٍ وَمَسْمُوعٍ، فِي ظِلٍّ ظَلِيلٍ، وَهَوَاءٍ عَلِيلٍ، وَمَاءٍ سَلْسَبِيلٍ، كَمَا قَالَ تعالى فِي الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ طَهَ: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [20: 118- 119] وَيَصِحُّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ السَّعَادَةِ بِالْكَوْنِ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِآدَمَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ كَمَا يُطْلَقُ اسْمُ أَبِي الْقَبِيلَةِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْقَبِيلَةِ، فَيُقَالُ: كَلْبٌ فَعَلَتْ كَذَا وَيُرَادُ قَبِيلَةُ كَلْبٍ، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ كَذَا. يَعْنِي الْقَبِيلَةَ الَّتِي أَبُوهَا قُرَيْشٌ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا.
وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالشَّجَرَةِ مَعْنَى الشَّرِّ وَالْمُخَالَفَةِ كَمَا عَبَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي مَقَامِ التَّمْثِيلِ عَنِ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَنِ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ، وَفُسِّرَتْ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ تَشْبِيهُ الْمُؤْمِنِ بِشَجَرَةِ النَّخْلِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَبِالْهُبُوطِ مِنْهَا أَمْرَ التَّكْوِينِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ قِسْمَانِ: أَمْرُ تَكْوِينٍ وَأَمْرُ تَكْلِيفٍ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَوَّنَ النَّوْعَ الْبَشَرِيَّ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَطْوَارِ التَّدْرِيجِيَّةِ الَّتِي قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [71: 14] فَأَوَّلُهَا طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ وَهِيَ لَا هَمَّ فِيهَا وَلَا كَدَرٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ، كَأَنَّ الطِّفْلَ دَائِمًا فِي جَنَّةٍ مُلْتَفَّةِ الْأَشْجَارِ، يَانِعَةِ الثِّمَارِ جَارِيَةِ الْأَنْهَارِ، مُتَنَاغِيَةِ الْأَطْيَارِ، وَهَذَا مَعْنَى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وَذِكْرُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِآدَمَ النَّوْعُ الْآدَمِيُّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الشُّمُولِ وَعَلَى أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْمَرْأَةِ كَاسْتِعْدَادِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ، فَأَمْرُ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالسُّكْنَى أَمْرُ تَكْوِينٍ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْبَشَرَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا هَكَذَا.
وَأَمْرُهُمَا بِالْأَكْلِ حَيْثُ شَاءَا عِبَارَةٌ عَنْ إِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَإِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّجَرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِلْهَامِ مَعْرِفَةِ الشَّرِّ، وَأَنَّ الْفِطْرَةَ تَهْدِي إِلَى قُبْحِهِ وَوُجُوبِ اجْتِنَابِهِ، وَهَذَانَ الْإِلْهَامَانِ اللَّذَأن يكونانِ لِلْإِنْسَانِ فِي الطَّوْرِ الثَّانِي وَهُوَ طَوْرُ التَّمْيِيزِ هُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [90: 10] وَوَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ وَإِزْلَالُهُ لَهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةِ تِلْكَ الرُّوحِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تُلَابِسُ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ فَتُقَوِّي فِيهَا دَاعِيَةَ الشَّرِّ، أَيْ إِنَّ إِلْهَامَ التَّقْوَى وَالْخَيْرِ أَقْوَى فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ الْأَصْلُ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَفْعَلُ الشَّرَّ إِلَّا بِمُلَابَسَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ وَوَسْوَسَتِهِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَنَّةِ مِثَالٌ لِمَا يُلَاقِيهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الِاعْتِدَالِ الْفِطْرِيِّ.
وَأَمَّا تَلَقِّي آدَمَ الْكَلِمَاتِ وَتَوْبَتُهُ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَعْقُبُ الْأَفْعَالَ السَّيِّئَةَ، وَرُجُوعِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ الضِّيقِ وَالْتِجَائِهِ إِلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ، وَتَوْبَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ هِدَايَتِهِ إِيَّاهُ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنَ الضِّيقِ، وَالتَّفَلُّتِ مِنْ شَرَكِ الْبَلَاءِ، بَعْدَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَالِالْتِجَاءِ، وَذِكْرُ تَوْبَةِ اللهِ عَلَى الْإِنْسَانِ تَرُدُّ مَا عَلَيْهِ النَّصَارَى مِنِ اعْتِقَادٍ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ سَجَّلَ مَعْصِيَةَ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى بَنِيهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ عِيسَى وَيُخَلِّصَهُمْ مِنْهَا وَهُوَ اعْتِقَادٌ تَنْبِذُهُ الْفِطْرَةُ، وَيَرُدُّهُ الْوَحْيُ الْمُحْكَمُ الْمُتَوَاتِرُ.
فَحَاصِلُ الْقَوْلِ: أَنَّ الْأَطْوَارَ الْفِطْرِيَّةَ لِلْبَشَرِ ثَلَاثَةٌ، طَوْرُ الطُّفُولِيَّةِ: وَهُوَ طَوْرُ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ، وَطَوْرُ التَّمْيِيزِ النَّاقِصِ: وَفِيهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ عُرْضَةً لِاتِّبَاعِ الْهَوَى بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَطَوْرُ الرُّشْدِ وَالِاسْتِوَاءِ: وَهُوَ الَّذِي يَعْتَبِرُ فِيهِ بِنَتَائِجِ الْحَوَادِثِ، وَيَلْتَجِئُ فِيهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ إِلَى الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَهَكَذَا كَانَ الْإِنْسَانُ فِي أَفْرَادِهِ مِثَالًا لِلْإِنْسَانِ فِي مَجْمُوعِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: كَأَنَّ تَدَرُّجَ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ ابْتَدَأَ سَاذَجًا سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، قَوِيمَ الْوِجْهَةِ، مُقْتَصِرًا فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ عَلَى الْقَصْدِ وَالْعَدْلِ، مُتَعَاوِنًا عَلَى دَفْعِ مَا عَسَاهُ يُصِيبُهُ مِنْ مُزْعِجَاتِ الْكَوْنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَصْرُ الَّذِي يَذْكُرُهُ جَمِيعُ طَوَائِفِ الْبَشَرِ وَيُسَمُّونَهُ بِالذَّهَبِيِّ.
ثُمَّ لَمْ يَكْفِهِ هَذَا النَّعِيمُ الْمُرَفِّهُ فَمَدَّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ أَيْدِيَهُمْ إِلَى تَنَاوُلِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، طَاعَةً لِلشَّهْوَةِ، وَمَيْلًا مَعَ خَيَالِ اللَّذَّةِ، وَتَنَبَّهَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَائِمًا فِي نُفُوسِ سَائِرِهِمْ فَثَارَ النِّزَاعُ، وَعَظُمَ الْخِلَافُ، وَاسْتُنْزِلَ الشَّقَاءُ، وَهَذَا هُوَ الطَّوْرُ الثَّانِي وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ.
ثُمَّ جَاءَ الطَّوْرُ الثَّالِثِ: وَهُوَ طَوْرُ الْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَوَزْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمِيزَانِ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَتَحْدِيدُ حُدُودِ الْأَعْمَالِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا نَزَعَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا سَيْرُ الرَّغَبَاتِ، وَهُوَ طَوْرُ التَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ.
وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّ تَوْبَةَ آدَمَ عليه السلام بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ بِحَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ قَدْ كَانَتْ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ وَاعْتِرَافِهِ مَعَ حَوَّاءَ بِظُلْمِهِمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَطَلَبِهِمَا الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ مِنْهُ تَعَالَى، لَا بِمُجَرَّدِ تَدَبُّرِ الْعَقْلِ وَوَزْنِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِمِيزَانِ الْفِكْرِ... إِلَخْ، مَا قَالَهُ شَيْخُنَا هُنَا تَبَعًا لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ هُوَ فِي بَحْثِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ- مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ-: أَنَّ عَقْلَ الْبَشَرِ لَا يَسْتَقِلُّ بِوَضْعِ حُدُودِ لِلْأَعْمَالِ تَنْتَهِي إِلَيْهَا نَزَعَاتُ الشَّهَوَاتِ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا سَيْرُ الْأَهْوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ، بَلْ لابد لَهُ مِنْ تَشْرِيعٍ إِلَهِيٍّ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَوْجَزَ هُنَا فَتَرَكَ الْمَسْأَلَةَ مُبْهَمَةً مُظْلِمَةً، وَإِنَّنَا نَرَى أَنَّ طَوْرَ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ قَدْ بَلَغَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُرْتَقًى لَمْ يُعْرَفْ فِي التَّارِيخِ مَا يُقَارِبُهُ، وَوَضَعَ عُلَمَاؤُهُ وَحُكَمَاؤُهُ شَرَائِعَ وَقَوَانِينَ لِإِيقَافِ التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ عِنْدَ حَدٍّ لَا يَتَفَاقَمُ شَرُّهُ، ثُمَّ نَرَى أَعْلَمَ هَذِهِ الْأُمَمِ وَدُوَلَهَا مَبْعَثَ الشُّرُورِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْخُبْثِ وَالرِّيَاءِ، وَالْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، فَلَا هِدَايَةَ إِلَّا هِدَايَةُ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي تُذْعِنُ لَهُ الْأَنْفُسُ بِمَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ- تَعَالَى.
قَالَ: وَبَقِيَ طَوْرٌ آخَرُ أَعْلَى مِنْ هَذِهِ الْأَطْوَارِ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ وَأَعْنِي بِهِ طَوْرَ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الْهِدَايَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْهُبُوطِ مَرَّتَيْنِ، فَالْأُولَى: بَيَانٌ لِحَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْهُبُوطِ مِنْ تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ الطَّوْرِ وَهُوَ أَنَّ حَالَهُمْ تَقْتَضِي الْعَدَاوَةَ وَالِاسْتِقْرَارَ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمَتُّعَ بِهَا، وَعَدَمَ الْخُلُودِ فِيهَا.
وَالثَّانِيَةُ: بَيَانٌ لِحَالِهِمْ مِنْ حَيْثُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَآثَارِهِمَا، وَهِيَ أَنَّ حَالَةَ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الطَّوْرِ لَا تَكُونُ عِصْيَانًا مُسْتَمِرًّا شَامِلًا، وَلَا تَكُونُ هُدًى وَاجْتِبَاءً عَامًّا- كَمَا كَانَ يُفْهَمُ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَى ذِكْرِ تَوْبَةِ اللهِ عَلَى آدَمَ وَهِدَايَتِهِ وَاجْتِبَائِهِ- وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْكُولٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِنْسَانِ وَسَعْيِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنْ يَجْعَلَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ الْوَحْيَ وَيُعْلِمَهُمْ طُرُقُ الْهِدَايَةِ، فَمَنْ سَلَكَهَا فَازَ وَسَعِدَ، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَشَقِيَ، هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْهُبُوطِ لَا أَنَّهُ أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا زَعَمُوا.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} أَيْ فَقَدِ انْتَهَى طَوْرُ النَّعِيمِ الْخَالِصِ وَالرَّاحَةِ الْعَامَّةِ وَادْخُلُوا فِي طَوْرٍ لَكُمْ فِيهِ طَرِيقَانِ: هُدًى وَضَلَالٌ، إِيمَانٌ وَكُفْرَانٌ، فَلَاحٌ وَخُسْرَانٌ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} مِنْ رَسُولٍ مُرْشِدٍ وَكِتَابٍ مُبِينٍ {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} الَّذِي أَشْرَعُهُ، وَسَلَكَ صِرَاطِي الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي أُحَدِّدُهُ {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِمَّا يَعْقُبُهَا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْخُسْرَانِ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَوْ فَقْدِ مَحْبُوبٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ أَنَّ الصَّبْرَ وَالتَّسْلِيمَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى وَيُوجِبُ مَثُوبَتَهُ، وَيَفْتَحُ لِلْإِنْسَانِ بَابَ الِاعْتِبَارِ بِالْحَوَادِثِ، وَيُقَوِّيهِ عَلَى مُصَارَعَةِ الْكَوَارِثِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ خَيْرَ عِوَضٍ عَمَّا فَاتَهُ وَأَفْضَلَ تَعْزِيَةٍ عَمَّا فَقَدَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: الْخَوْفُ عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْإِنْسَانِ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُ، أَوْ تُوقِعِ حِرْمَانٍ مِنْ مَحْبُوبٍ يَتَمَتَّعُ بِهِ أَوْ يَطْلُبُهُ، وَالْحُزْنُ أَلَمٌ يُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ إِذَا فَقَدَ مَا يُحِبُّ، وَقَدْ أَعْطَانَا اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الطُّمَأْنِينَةَ التَّامَّةَ فِي مُقَابَلَةِ مَا تُحْدِثُهُ كَلِمَةُ {اهْبِطُوا} مِنَ الْخَوْفِ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ، وَمَا تُثِيرُهُ مِنْ كَوَامِنَ الرُّعْبِ، فَالْمُهْتَدُونَ بِهِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لَا يَخَافُونَ مِمَّا هُوَ آتٍ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهُدَى يُسَهِّلُ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ اكْتِسَابِ الْخَيْرَاتِ، وَيَعُدُّهُمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ وِجْهَتَهُ، يَسْهُلُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَسْتَقْبِلُهُ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا أَصَابَهُ أَوْ فَقَدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُوقِنٌ بِأَنَّ اللهَ يُخْلِفُهُ فَيَكُونُ كَالتَّعَبِ فِي الْكَسْبِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَزُولَ بِلَذَّةِ الرِّبْحِ الَّذِي يَقَعُ أَوْ يُتَوَقَّعُ.
وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الدِّينَ يُقَيِّدُ حُرِّيَّةَ الْإِنْسَانِ وَيَمْنَعُهُ بَعْضَ اللَّذَّاتِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى التَّمَتُّعِ بِهَا، وَيُحْزِنُهُ الْحِرْمَانُ مِنْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْمَأْمَنُ مِنَ الْأَحْزَانِ، وَيَكُونُ بِاتِّبَاعِهِ الْفَوْزُ وَبِتَرْكِهِ الْخُسْرَانُ؟ فَجَوَابُهُ: إِنَّ الدِّينَ لَا يَمْنَعُ مِنْ لَذَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي إِصَابَتِهَا ضَرَرٌ عَلَى مُصِيبِهَا، أَوْ عَلَى أَحَدِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ الَّذِينَ يَفُوتُهُ مِنْ مَنَافِعِ تَعَاوُنِهِمْ- إِذَا آذَاهُمْ- أَكْثَرُ مِمَّا يَنَالُهُ بِالتَّلَذُّذِ بِإِيذَائِهِمْ، وَلَوْ تَمَثَّلَتْ لِمُسْتَحِلِّ اللَّذَّةِ الْمُحَرَّمَةِ مَضَارُّهَا الَّتِي تُعْقُبُهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي النَّاسِ، وَتَصَوَّرَ مَالَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي فَسَادِ الْعُمْرَانِ لَوْ كَانَتْ عَامَّةً، وَكَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ مُعْتَدِلَ الْفِطْرَةِ لَرَجَعَ عَنْهَا مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا كَدَرُ

فَكَيْفَ إِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ يُؤْمِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ تُدَنِّسُ الرُّوحَ فَلَا تَكُونُ أَهْلًا لِدَارِ الْكَرَامَةِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ!
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَلَيْسَتْ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ فِي حُرِّيَّةِ الْبَهَائِمِ بَلْ فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ وَمُحِيطِهِ، فَمَنِ اتَّبَعَ هِدَايَةَ اللهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَمَتَّعُ تَمَتُّعًا حَسَنًا، وَيَتَلَقَّى بِالصَّبْرِ كُلَّ مَا أَصَابَهُ، وَبِالطُّمَأْنِينَةِ مَا يَتَوَقَّعُ أَنْ يُصِيبَهُ فَلَا يَخَافُ وَلَا يَحْزَنُ.
يُرِيدُ: أَنَّ رَجَاءَ الْإِنْسَانِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّبِيعَةِ هُوَ الَّذِي يَقِيهِ مِنْ تَحَكُّمِ عَوَادِي الطَّبِيعَةِ فِيهِ، وَبِدُونِ ذَلِكَ الرَّجَاءِ تَتَحَكَّمُ فِيهِ أَشَدَّ مِمَّا تَتَحَكَّمُ فِي الْبَهَائِمِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ طَبِيعَةً {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [4: 28] فَالْتِمَاسُ السَّعَادَةِ بِحَرِيَّةِ الْبَهَائِمِ هُوَ الشَّقَاءُ اللَّازِمُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِلَفْظِ التَّمَتُّعِ الْحَسَنِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [11: 3] الآية، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ سَعَادَةَ الدُّنْيَا مَعْلُولَةٌ لِلْاهْتِدَاءِ بِالدِّينِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ حَجَبَهَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلُهُمْ فِي الْكَافِرِينَ: لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ، يُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُجَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَآيَاتُ سُورَةِ طَهَ فِي قِصَّةِ آدَمَ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ مِنْ آيَاتِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [20: 123- 124] الْآيَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أَقُولُ: الْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ: الْعَلَامَةُ الظَّاهِرَةُ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ ظَاهِرٍ مُلَازِمٌ لِشَيْءٍ بَاطِنٍ يُعْرَفُ بِهِ، وَيُدْرَكُ بِإِدْرَاكِهِ حِسِّيًّا كَانَ كَأَعْلَامِ الطُّرُقِ وَمَنَارِ السُّفُنِ، أَوْ عَقْلِيًّا كَالدَّلَائِلِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَنَتِيجَةٍ اهـ بِالْمَعْنَى قَالَ: وَاشْتِقَاقُ الْآيَةِ إِمَّا مِنْ أَيْ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ أَيًّا مِنْ أَيْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّأَيِّي الَّذِي هُوَ التَّثَبُّتُ وَالْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ. اهـ. أَقُولُ: بَلْ أَصْلُهُ قَصْدُ آيَةِ الشَّيْءِ أَيْ شَخْصِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَتَأَيَّا الطَّيْرُ غُدْوَتَهُ ** ثِقَةً بِالشِّبَعِ مِنْ جُزُرِهِ

أَيْ تَتَحَرَّى الطَّيْرُ وَتَقْصِدُ خُرُوجَهُ صَبَاحًا إِلَى الْقِتَالِ أَوِ الصَّيْدِ لِثِقَتِهَا بِمَا سَبَقَ مِنَ التَّجَارِبِ بِأَنْ تَسْتَشْبِعَ مِمَّا يَتْرُكُ لَهَا مِنَ الْفَرَائِسِ.
وَأُطْلِقَتِ الْآيَةُ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ مِنَ الْأَقْسَامِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا سُوَرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَتَفْصِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَاصِلَةٌ يَقِفُ الْقَارِئُ عِنْدَهَا فِي تِلَاوَتِهِ، وَيُمَيِّزُهَا الْكَاتِبُ لَهُ بِبَيَاضٍ أَوْ بِنُقْطَةٍ دَائِرَةٍ أَوْ ذَاتِ نَقْشٍ أَوْ بِالْعَدَدِ، وَالْعُمْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْآيَاتِ بِفَوَاصِلِهَا التَّوْقِيفُ الْمَأْثُورُ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا يُدْرَكُ مِنَ النَّظْمِ، وَالْآيَاتُ تُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا دَلَائِلٌ لَفْظِيَّةٌ عَلَى الْعَقَائِدِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامُ وَالْآدَابِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ، كَمَا تَدُلُّ فِي جُمْلَتِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا تَقْدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْبَشَرِ عَنْ مِثْلِهَا، وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِ كَمَالِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْعُقُولِ وَبَرَاهِينِهَا، أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ وَالْعِبَرِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلُ قوله قَبْلَهُ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ}.. إِلَخْ، أَيْ وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا هُدَايَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِنَا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْمُبَيِّنَةِ لِسَبِيلِ ذَلِكَ الْهُدَى- كَمَا قَالَ قَبْلَ قِصَّةِ آدَمَ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [2: 28]- أَوْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا اعْتِقَادًا، وَكَذَّبُوا بِهَا لِسَانًا، فَجَزَاؤُهُمْ مَا يَأْتِي، وَالتَّكْذِيبُ كُفْرٌ سَوَاءٌ أَكَانَ عَنِ اعْتِقَادٍ بِعَدَمِ صِدْقِ الرَّسُولِ أَمْ مَعَ اعْتِقَادِ صِدْقِهِ وَهُوَ تَكْذِيبُ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ الَّذِي قَالَ اللهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِهِ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [6: 33] كَمَا أَنَّ الْكُفْرَ الْقَلْبِيَّ قَدْ يُوجَدُ مَعَ تَصْدِيقِ اللِّسَانِ كَمَا هِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَى كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا بِالِاخْتِصَارِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الَّتِي نَجْعَلُهَا دَلَائِلَ الْهِدَايَةِ وَحُجَجَ الْإِرْشَادِ بِأَنْ جَحَدُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا، وَلَمْ يُذْعِنُوا لِصِدْقِهَا اتِّبَاعًا لِخُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَعَمَلًا بِوَسْوَسَتِهِ وَذَهَابًا مَعَ إِغْوَائِهِ- {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخُلُودِ فِي آخِرِ (الْآيَةِ 25) وَأَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْحَصْرِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ الْإِضَافِيِّ، أَيْ أُولَئِكَ الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْبُعَدَاءُ هُمْ- دُونَ مُتَّبِعِي هُدَايَ- أَصْحَابُ النَّارِ وَأَهْلُهَا هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا، أَيْ هُمْ فِي خَوْفٍ قَاهِرٍ، وَحُزْنٍ مُسَاوِرٍ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجَلَالُ الْآيَاتِ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَهُوَ يَصِحُّ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ آيَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَسَائِرُ الْكُتُبِ تَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ- تَعَالَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: بَعْدَ تَفْسِيرِ الْكُفْرِ بِالْجُحُودِ، وَالتَّكْذِيبِ بِالْإِنْكَارِ: وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْتِي فِي فِرَقٍ مِنَ النَّاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَا تَقْوَى وَلَا إِيمَانَ لَهُ؛ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ لِلنَّظَرِ فِيمَا جَاءَهُمْ، فَهَؤُلَاءِ مُنْكِرُونَ وَهُمْ مُكَذِّبُونَ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَشْمَلُ عَدَمَ الِاعْتِقَادِ بِصِدْقِ الدَّعْوَى الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ وَاعْتِقَادَ كَذِبِهَا، وَالْجُحُودُ قَدْ يَأْتِي مِنَ الْمُعْتَقِدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [27: 14].
فَهَذَا هُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ مَا وُكِلَ إِلَى كَسْبِهِ، وَجُعِلَ فَلَاحُهُ وَخُسْرَانُهُ بِعَمَلِهِ؛ فَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِهِ أَنْ أَيَّدَهُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، فَبِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ يَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ مَا شَاءَ اللهُ- تَعَالَى. اهـ.